« لا نريد من مرآتنا غير ما يشبهنا »
يظل المكان العمومي مكانا « مقدسا » لأنه يجمع أناسا مختلفين. وهو لذلك يتطلب قدرا أدنى من الاحترام. وان قانون منع التدخين في الأماكن العمومية ينحو هذا النحو. ويبدو أن المواطن غير واع بعد بأبعاد هذا القرار ودلالاته. وهو لن يقبل تطبيقه عن طواعية وطيب خاطر.
« أنا سائق حافلة عمومية ومدمن تدخين. وأستهلك يوميا علبة سجائر. ولا أستطيع منع نفسي من التدخين حتى وان كنت أعمل في مكان عمومي ». وأضاف : « هذا لا يعني أنني لا أحترم المكان العمومي أو أنني لا أقدر غير المدخنين. لكن ليس لي حل آخر ».
هكذا تصبح الأماكن العمومية محل نظر وجدال. هل الفضاء العمومي مساحة حرية وانطلاق وانعتاق وتخلص من القيود أو هو فضاء يحد من الحريات الفردية ويقتضي حدا أدنى من الاحترام ؟
الفضاء العمومي مكان مقدّس :
المكان العمومي مفهوم قديم. إذ كان الرومان يستعملونه لإغراض الترفيه كالمصارعة أو لأغراض فنية وأدبية عند الإغريق (كالمسرح والمناقشات الفلسفية).
وكانت المعابد والكنائس والمساحات العامة فضاءات عمومية.
أما العرب فاستعملوه الأهداف اقتصادية ،أدبية وترفيهية…أو الأهداف كلها مجتمعة (كسوق عكاظ الشعري).
وفي تونس، الفضاء العمومي مفهوم ترسخ في الذهنية الشعبية على مدى أمد طويل في شكل نعوت مختلفة مثل « شارع الحاكم » أو « رزق البيليك » من الفرنسية public للدلالة على ملك غير خاص سواء تعلق الأمر بمصلحة أم بعقار أو بممتلكات على ملك الدولة.
وهذه الفضاءات تلاقي في الغالب سوء المعاملة وقلة الاهتمام.
وتبقى عين الرقيب ضرورة ملحة في هذه الأماكن لتطبيق القوانين الصادرة بشأنها مثل قانون منع التدخين في الأماكن العمومية الصادر في 23 فيفري 1998. **
لذا تنتظر أعوان الأمن (بوصفهم من أعوان المراقبة) بداية من 28 فيفري 1999 مهمة جديدة وشائكة. وتتمثل مهمتهم الجديدة هذه في مراقبة تطبيق منع التدخين في الأماكن العمومية.
ويقول يوسف (عون أمن): « بالمناسبة نحن سعداء بتطبيق هذا القانون. إذ أنه يحمي الضعفاء كالأطفال والحوامل وكبار السن والمرضى. فهؤلاء جميعا قد يعجزون عن التدخل في غياب مثل هذا القانون ».
وأضاف زميل له كان يقف إلى جانبه (أحمد. ع) : « ويل للمدخنين في الأماكن العمومية » ويتوعد بالشدّة معهم خاصة عند استخلاص المخالفات المالية.
ثم مر عامل النظافة وكان منهمكا في عمله يجمع بقايا السجائر. وبخصوص قانون منع التدخين أجاب بتلقائية : « بكل بساطة، ستقل نفايات السجائر في الأماكن العمومية، وربما سأربح دقائق راحة إضافية. ثم راح يضحك وهو يشير بسبابته إلى رأسه: »المشكلة في الرأس وليست في الكراس ».(وهو يقصد حتما القوانين المدونة).
حينئذ، تقدمت نحونا إحدى الفتيات (روضة،طالبة علوم توثيق)، وقالت: »يتحدث الجميع هذه الأيام عن منع التدخين في الأماكن العمومية.ويتحدثون عن عقوبات وخطابا مالية.والكل يتوعد بالويل والثبور.إذ التدخين علامة تلوث بيئي وصحي.ولكنه ليس الحالة الوحيدة. ثم استطردت قائلة: » أريد أن أشير إلى ظاهرة البصاق في الشارع، الملفتة للانتباه.وقد لا يهتم البعض بهذه الظاهرة.لكن وجب التطرق إليها.وإذ لزم الأمر يصدر قانون يمنع هذه السلوكات إذ أنها من آثار التدخين المباشرة. »
وفعلا، المكان العمومي واجهة البلاد. فمن خلاله تقاس درجة تحضر الشعوب.ونحن لا نطلب من مرآتنا إلا ما بشبهنا. *
وإضافة إلى التلوث البيئي، يعاني الشارع التونسي (كمثال للأماكن العمومية) من مظاهر أخرى للتلوث ليست بأقل أهمية. مثل التلوث السمعي.
وهذه حادة ترويها سيدة، تقول: »عشية مقابلة رياضية بين فريق رياضي من العاصمة وفريق آخر أجنبي ركبت المترو الخفيف. يومها تمنيت أن أرمي نفسي خارج العربة لهول ما سمعت من الكلام الذي يندى له الجبين وتقشعر منه الأبدان. والغريب أن لا احد تدخل لإيقاف المراهقين المتهورين. وفي هذه الحالة أدعو السلطات المختصة إلى الحزم عند مراقبة كل من يتلفظ بكلام بذيء وكل من يسب الجلالة على الملأ. »
المراقبة أو الحلقة المفقودة :
هكذا، تبقى إشكالية المكان العمومي مفتوحة.
ففي حين يصر البعض على حقهم في ممارسة « حرياتهم الشخصية »، يلح البعض الآخر على حقه في بيئة سليمة من تلك العيوب والمخاطر (الصحية واللفظية).
وتبقى حلقة الوصل بين الطرفين مفقودة والسؤال مطروحا:
من يراقب هذه القوانين؟
هل يكفي القانون وحده لإصلاح سلوكيات الفرد؟
يقول محمد (عون أمن): » ليس بوسع القانون إصلاح شخصية الفرد وسلوكه.إذ على المواطن التونسي أن يعي أخطاؤه ويفلح في مراقبة ذاته ويمنعها من الإساءة إلى غيرها. »
ثم التفت إلى زميله وقال له: »لا أظنك تشي بي إن أنت رأيتني أدخن في مكان عمومي.إنك صديقي وزميلي… ». وكان جادا وهو يقصد ذلك فعلا.. »
تعليقات
إرسال تعليق